إن بلاد الشام، كوادي النيل والعراق، من مهاجر الجنس العربي الطبيعية، وأوطانه الثانية، لأنها الجناح الغربي للهلال الخصيب الذي كان يجذب هذا الجنس من جزيرة العرب بصورة مستمرة، وهي متصلة بالجزيرة من جنوبها اتصالاً مباشراً.
وإذا كان الباحثون لا يستطيعون أن يجزموا في أمر هوية سكان هذه البلاد في العصور الحجرية والظرانية السابقة للتاريخ، أو إذا كان منهم من يذهب إلى أن هؤلاء السكان مزيج من عناصر آرية أو أرمنوية، كما يسميها فيليب حتي، تسربت من الشمال، وعناصر حامية تسربت من الجنوب، فليس هناك من يماري في طروء جماعات أو موجات متلاحقة عديدة عليها، منذ أقدم الأزمنة التاريخية المعروفة، ممن سموا "ساميين"، وسميناهم الجنس العربي، وغلبة طابعهم على هذه البلاد، وعلى من كان فيها قبل طروئهم المعروف، أو جاء إليها بعد أن أخذوا يطرأون عليها، وعدّوها بذلك من مهاجر هذا الجنس، وأوطانه الثانية.
وإذا كان هناك من لا يقول بمجيء تلك الجماعات أو الموجات التي سميت بالساميين من جزيرة العرب، فإن جمهرة الباحثين يقررون العكس، ويقولون أنه مهما اختُلِف في أصل مهد الساميين الأول، فإن مهدهم الثاني كان جزيرة العرب، وإن الموجات والجماعات التي طرأت على بلاد الشام من ناحية باديتها، أو من طريق العراق، إنما جاءت في الأصل من الجزيرة العربية، حيث نزح بعضها من جنوبها إلى شواطئها الشرقية على بحر الهند فالخليج العربي فالعراق فبلاد الشام أو إلى بلاد الشام مباشرة عن طريق البادية.
وهذا ما تؤيده الشواهد والوقائع، حيث كان التشارك في اللغة والخصائص والتقاليد قوياً بين هذه الموجات، وبين سكان جزيرة العرب قبل تطورهم من العروبة غير الصريحة وبعده، وحيث عُرِف يقيناً في دور العروبة الصريحة قبل الإسلام الذي بدأ في الألف الثاني قبل المسيح، انسياح الموجات من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وإقامتها الدول العديدة من عريبية وقيدارية ورهاوية وايطورية ونبطية وتدمرية وتنوخية وضجعمية وغسانية... الخ، فضلاً عن الموجات التي تلاحق ورودها من جزيرة العرب، من طريقي العراق والبادية إلى هذه البلاد، تحت راية الإسلام، والتي لم يكد تلاحقها ينقطع في دور من أدوار الحقبة الطويلة الممتدة إلى اليوم، والتي انطبعت بلاد الشام بها بطابع العروبة الخالد المقدس، مما هو متسق مع طبيعة جزيرة العرب منذ أقدم الأزمنة، ومما يصح أن يعد دليلاً حياً لا يمكن دحضه، مهما بلغت المكابرة والتزمت في بعض الباحثين من مبلغ.
وقد تكون دماء الموجات العربية التي طرأت على بلاد الشام قبل دور العروبة الصريحة، اختلطت بدماء من كان قبلها فيها، أو من جاء إليها بعد أن أخذت تطرأ عليها من غير جنسها، كما كان شأن أمثالها في العراق ووادي النيل، وقد تكون اكتسبت شخصية خاصة نوعاً ما في الأرض الجديدة التي حلت فيها. غير أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً كبيراً، ما دامت هذه الموجات قد جاءت من جزيرة العرب، وظل طابعها العربي هو الغالب على بلاد الشام، ومن فيها من غير جنسها، وظلت تحتفظ بكثير من خصائص جنسها ولغته وتقاليده.
لقد لبثت بلاد الشام تحت حكم اليونان والرومان نحو ألف عام (من 331 ق.م إلى 640 ب. م)، وجاء إليها منهم الألوف المؤلفة، واستقروا فيها، ونشروا لغتهم وثقافتهم... وقد جمع بينهم وبين أهل البلاد دين واحد هو النصرانية منذ القرن الرابع الميلادي، وترجمت إلى اليونانية الكتب المقدسة، وصارت من اللغات التي تؤدى بها طقوس العبادة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يطبعوا البلاد وأهلها بطابعهم، بل وكانت جمهرة الشاميين منقبضين عنهم، متحاشين الامتزاج بهم، في حين أن الموجات العربية الصريحة التي جاءت إلى بلاد الشام قبل الإسلام، أخذت تطبع البلاد وأهلها بالطابع العربي الصريح بسهولة ويسر، واشتد هذا الطابع في عمله حينما جاءت موجة الفتح الكبرى تحت راية الإسلام، فلم يمض بضعة أجيال حتى تم له السيادة الخالدة المقدسة. وليس من تفسير لهذه الظاهرة، إلا صدق نظرية وحدة الدم والأرومة والمنبت والروح التي كانت تجمع بين سكان هذه البلاد وجزيرة العرب والجنس العربي كما هو المتبادر.
ولقد كان من تلاحق الموجات المعروفة يقيناً إلى بلاد الشام، في دور العروبة الصريحة قبل الإسلام وبعده، وما قام وظل يقوم من صلات وثيقة بين هذه البلاد وجزيرة العرب، وما كان من استمرار التشارك في اللغة والخصائص والتقاليد والعقلية بين هذه الموجات الصريحة العروبة، وبين الموجات التي قبلها، ما أكد ذلك الطابع وقواه وخلده، وجعل دعوى انتماء تلك الموجات إلى العروبة وجزيرة العرب محكمة حاسمة.
فهذه قائمة احتوت مئات من أسماء القرى والقصبات والمدن في مختلف أنحاء بلاد الشام الساحلية والداخلية والجنوبية والشمالية، بما فيها فلسطين، منقولة عن معجم البلدان لياقوت الحموي، المتوفى في القرن الهجري السابع، مما يحمل اللمحة العربية القديمة من اللهجات أو اللغات الكنعانية الفينيقية والعمورية والآرامية السريانية والعبرانية:
[هنا يضع دروزة أسماء مئات الأماكن في بلاد الشام نقلاً عن ياقوت الحموي حسب الترتيب الأبجدي، من آبل وابتر إلى يحمون ويرموك – إ. ع].
واللمحة العربية المتقدمة على دور العروبة الصريحة الفصحى بادية على هذه الأسماء، كما هو ظاهر. وقد تركنا ما غلبت عليه اللمحة الأعجمية، أو ما جاء بالعربية الفصحى، وهو مع ذلك قليل. ومن المحتمل أن تكون الأسماء الجديدة المطلقة مؤخراً على أعيان قديمة، وننبه على أن ياقوت لم يذكر جميع الأسماء، بدليل وجود أعيان كثيرة قائمة اليوم، لم يرد ذكرها فيه.
وعلى كل حال، فإن كون جل ما أورده مما يحمل لمحة العروبة القديمة، يدل على أن الموجات القديمة الطارئة على بلاد الشام فروع جنس واحد، هو الجنس العربي، تمت في أصلها إلى موطن واحد هو جزيرة العرب، وأنها طبعت بلاد الشام، كما قلنا، بطابعها الذي ظل غالباً إلى زمنه.
ولقد ظلت هذه الأسماء، مع كثير غيرها يفوق ما أورده ياقوت بأضعاف، مستعملةً إلى اليوم، تقوم كدليل حي على ما كان للموجات العربية القديمة في بلاد الشام، أي سورية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين، حسب التقسيم الجغرافي السياسي الحاضر، من أثر وطابعٍ خالدين.
وهذه قائمة مقتبسة من نشرة وزارة الاقتصاد الوطني في الحكومة السورية، صدرت سنة 1952 باسم التقسيمات الإدارية في الجمهورية السورية. ولقد احتوت هذه النشرة (5476) اسماً للمدن والقصبات والقرى السورية عدا (4707) اسماً للمزارع الصغيرة. وثلث هذه الأسماء تقريباً يحمل اللمحة العربية القديمة الآرامية-السريانية، وثلثها يحمل أسماء عربية فصحى، ربما أطلق كثيرٌ منها على أعيان آرامية-سريانية قديمة. ومنها ما ورد في معجم ياقوت، ومعظمها لم يرد فيه. ونقلها جميعاً تطويل لا ضرورة له، ولهذا سنكتفي بإيراد جملة ما يحمل اللمحة العربية القديمة الآرامية السريانية منسوبةً إلى القسم الإداري الرئيسي الذي يسمى "المحافظة" والذي هي فيه:
[هنا يورد دروزة نقلاً عن نشرة وزارة الاقتصاد الوطني في سوريا أسماء عشرات الأماكن لكل من المحافظات التالية: دمشق، حوران، السويداء، حمص، حماة، اللاذقية، حلب، الفرات، والجزيرة – إ. ع].
ففي هذه الأسماء ومثيلاتها التي تزيد عنها أضعافاً كثيرة، والمذكورة في نشرة الحكومة السورية، توكيد لما قلناه من أن الموجات العربية القديمة قد طبعت بلاد الدولة السورية من بلاد الشام بطابعها الغالب، بل الشامل الذي ظلت شواهده مستمرة إلى الآن.
وهذه قائمة مقتبسة من كتاب "لبنان" الذي ألفه نخبة من الأدباء بأمر متصرف لبنان سنة 1914، ولقد احتوى هذا الكتاب قوائم بأسماء نحو ألف قرية وقصبة ومدينة من قرى وقصبات ومدن جبل لبنان، ومعظمها يحمل اللمحة العربية القديمة الآرامية-السريانية والكنعانية الفينيقية، ومنها ما ورد في معجم ياقوت، ومعظمها لم يرد فيه، ونقلها جميعها تطويل لا ضرورة له أيضاً، ولهذا سنكتفي بإيراد جملة من كل حرف:
[هنا يورد دروزة نقلاً عن كتاب "لبنان" أسماء عشرات الأماكن في لبنان، حسب الترتيب الأبجدي، من اجبع وادما إلى يا ريتا ويحشوش – إ. ع].
وفي هذه الأسماء ومثيلاتها التي تزيد عنها أضعافاً، والمذكورة في كتاب لبنان توكيد كذلك لما قلناه من أن الموجات العربية القديمة الآرامية-السريانية والكنعانية-الفينيقية قد طبعت جبل لبنان من بلاد الشام بطابعها الغالب الذي ظل مستمراً إلى الآن أيضاً.
وهذه قائمة احتوت أسماء عشرات القرى في أقضية صيدا وصور ومرجعيون والشقيف في جبل عامل الذي لم يكن داخلاً في حدود إدارة لبنان حينما كتب مؤلفو كتاب لبنان كتابهم. وهي تحمل كسابقاتها اللمحة العربية القديمة الآرامية والكنعانية، منها ما ورد في معجم ياقوت ومنها ما لم يرد. ولم نذكر الأسماء الفصحى، والأسماء التي تلوح عليها لمحة الأعجمية، مع أن هناك احتمالاً أن تكون قد أطلقت على أعيان قديمة:
1 – قرى قضاء صور [حسب الترتيب الأبجدي، من أرزون إلى يارون ويانوح ].
2 – قرى قضاء مرجعيون [حسب الترتيب الأبجدي، من بلاط وبويضه وبنت جبيل إلى مركبا وميس وهونين].
3 – قرى قضاء صيدا [ حسب الترتيب الأبجدي، من أزريه وبراك التل إلى مجدليون ومجدله].
4 – قرى قضاء الشقيف [ حسب الترتيب الأبجدي من أرنون إلى يحمر – إ. ع ].
وهذه قائمة مقتبسة من كتاب جغرافية فلسطين لحبيب خوري وحسين روحي فيها أسماء مئات القرى والقصبات الفلسطينية المستعملة اليوم والتي تحمل اللمحة العربية القديمة الآرامية والكنعانية والعمورية والعبرانية منها ما ورد في معجم ياقوت ومعظمها لم يرد. ولم ننقل الأسماء العربية الفصحى ولا الأسماء التي تلوح عليها لمحة الأعجمية وهي كثيرة مع احتمال أن تكون هذه الأسماء قد أطلقت على أعيان قديمة. وقد رتبنا الأسماء حسب الأقضية التابعة لها:
[هنا يضع دروزة قائمة ببعض القرى الملحقة بكل من الأقضية التالية: غزة، المجدل، الخليل، القدس، بيت لحم، رام الله، أريحا، يافا، الرملة، نابلس وجماعين، طولكرم، جنين، بيسان، حيفا، عكا، الناصرة، طبريا، وصفد – إ. ع ].
وهذه قائمة بأسماء كثير من مدن وقصبات وقرى شرق الأردن المستعملة اليوم والتي تحمل اللمحة العربية القديمة الآرامية والعمورية والكنعانية والعبرانية منها ما ورد في معجم ياقوت ومعظمها لم يرد مع التنبيه على أن هذه الأسماء ليست كل الأسماء التي تحمل تلك اللمحة لأنها كثيرة هي الأخرى.
[هنا يسرد دروزة أسماء الأماكن المحيطة بالأقضية التالية: جرش، عمان، الكورة، الطفيلة، معان، الكرك، مادبا، عجلون، السلط، إربد. على سبيل المثال، أماكن وأعلام إربد دونها دروزة كما يلي: أيدون، صريح، حوارة، بشرى، سال، البارحة، إربد، كفريوبا، جمحة، زحر، كفرعان، كفررضا، دوفرة، سوم، بجين، فم، قميم، خراج، قصفا، عرزيت، أسعرا، حيدور، ثقيلة، سما، فوعرة، حور، ابدر، رفيد، بارشنا، كفرسوم، عقربا، حرنا بلا، حريما، خرجا، مرو، حكما، علعال، عمراوة، ملكا، كتم، شطنا، ناطغة، بنية، حبكة، صمد باقورة، دير السعنة، مخربا، مندح، صما، سحم، مخيبة، سمر طرة، رمثا، حوشة، صرة، فاع، بريفة].
والتماثل شديد عجيب بين اللغات الكنعانية الفينيقية والآرامية السريانية والعبرانية التي كان يتكلم بها الموجات العربية التي استقرت في مختلف بلاد الشام وبين اللغة العربية مما فيه الدليل القوي على أصالة عروبة هذه الموجات، وعلى أن هذه اللغات إنما كانت لهجات للغة أم واحدة.
وهذه قائمة بمفردات كنعانية مأخوذة من الأمير موريس شهاب مدير عام الآثار اللبنانية:
أب، أخ، أحد، أكل، أم، آمة، أنس، أنت، أرض، بيت، بن، بنى، برا، برح، برك (بارك)، جلى، جمل، دلل (دليل)، دم، عم، دقق (دقيق)، هو، هيكل، هم، ذبح، ذكر، ذرع، خدر، حدث، حي، حلب، حلل، حلة، خلص، خمسى، حية، ختم، طبخ، طبع، يد، يوم، يم، يتم (يتيم)، كاهن، كلب، كنى، كف، كرسي، كتب، كتن (كتان)، لسن (لسان)، مئة، موت، ملح، ملاح، ملك، منحة، ندر، نحس (نحاس)، نفس، نصب، عيد، عبر، عين، علا، عامود، عضم، عقب، مغارة، عشر، فلح، فعل، فتح، صدق، قبر، قول، قرن، راس، رب، أربع، رصب، رعن، سبع، ثلاث، ثمان، ثاني، شرش، تحت، تين، تمر، وتسع.
وهي تكاد تكون عربية فصحى كما هو ظاهر...
[وليلاحظ القارئ الكريم أنه لو نسخ ولصق هذه القائمة الصغيرة من الكلمات الكنعانية في مستند في الحاسوب، فإن كل ما لا يظهر تحته خط أحمر مكسر هو كلمة عربية فصيحة، وأن ما يظهر تحته خط أحمر مكسر هو عادة لفظ شائع في كلامنا العامي، مثل عضم بدلاً من عظم، وراس بدلاً من رأس، وشرش بدلاً عِرق، الخ... وكذلك الأمر في بقية الوطن العربي، والعبرة أن معظم العامية، ما عدا اللحن الداخل حديثاً من لغات أخرى، عبارة عن قواعد ومفردات لغات عربية قديمة كانت سائدة يوماً ما في العراق وبلاد الشام ووادي النيل والمغرب العربي. إ. ع].
وهذه قائمة مفردات آرامية وعبرانية مع ما يقابلها من العربية القديمة في جنوب الجزيرة العربية والعربية الفصحى:
[هنا يضع دروزة جدولاً طويلاً بمفردات عربية فصحى، حسب الترتيب الأبجدي، مع ما يقابلها من مفردات عربية جنوبية قديمة ومفردات آرامية وعبرانية - بعضها سبق أن رأيناه في الجدول السابق في القسم المتعلق بالعراق - للدلالة على مدى التقارب فيما بينها، مع الإشارة أن إفراد قسم خاص للمفردات العبرانية لا مبرر له لأن العبرانية القديمة ليست سوى لهجة آرامية خسيسة، لكن المستشرقين الذين درسوا اللغات السامية القديمة تعاملوا مع العبرانية كلغة منفصلة بسبب تحيزهم المسبق... ومنهم إسرائيل ولنغستون مؤلف كتاب تاريخ اللغات السامية الذي يقتطف منه دروزة بعد الجدول فقرات من نصوص كنعانية-فينيقية وآرامية نقشت على أحجار في مختلف أنحاء بلاد الشام تعود لفترات مختلفة قبل الميلاد – إ. ع].
خلاصة عامة: وإذا نحن اهتممنا، للتدليل على الوحدة الجنسية التي تربط بين موجات جزيرة العرب الطارئة على بلاد الشام ببعضها من جهة، وبغيرها من الطارئين على البلاد الأخرى من جهة، وبالذين بقوا في جزيرة العرب من جهة، ثم على الطابع العربي الذي طَبَعَت به هذه الموجات بلاد الشام بالمظهر اللغوي الذي يتمثل بالمفردات اللغوية، وأسماء الأعلام الكثيرة التي أثبتنا قوائمها آنفاً، فليس معنى هذا أن التشارك اللغوي هو وحده الجامع، وإنما لأن جمهرة من الباحثين اعتبروا هذا التشارك من أبرز مظاهر الوحدة الجنسية، على ما ذكرناه في المقدمة، وهو حق ما دام قائماً بين جميع الموجات التي خرجت من الجزيرة، وبين الذين بقوا فيها. ولقد قرر جمهرة من الباحثين مع ذلك أن التشارك قائمٌ في العقائد والتقاليد والأفكار أيضاً، وهو ما سوف تأتي الشواهد عليه في ثنايا هذا الجزء.
ولقد سلك المؤرخون العرب، وغير العرب، النبطيين والتدمريين في هذه البلاد في سلك التاريخ العربي، ولم يكونوا يسمون عرباً بصراحة. وكانت لغتهم ما تزال بين العروبة الصريحة والعروبة غير الصريحة. وذلك بسبب انتمائهم إلى جزيرة العرب والجنس العربي والطابع العربي للغتهم وأسمائهم ومنقوشاتهم، وليس من فرق في الواقع بين هؤلاء، وبين الموجات التي جاءت قبلهم من جزيرة العرب إلى بلاد الشام. فإذا ما سلكت تاريخها في سلك تاريخ الجنس العربي، فإنما تفعل ذلك اتساقاً مع الحقيقة التاريخية المتصلة بالواقع المستمر منذ عشرات القرون قبل الإسلام، والمؤيَّدة بالشواهد المتنوعة، وأقوال جمهرة من العلماء والباحثين وتقريراً لها، وتصحيحاً للخطأ المشهور، والتوجيه التاريخي، وتدليلاً على أن عروبة بلاد الشام الحاضرة هي امتداد لما كان من عروبتها الصريحة وغير الصريحة التي سبقت الإسلام بعشرات القرون، ثم إحباطاً لمكر المستعمرين والمبشرين المغرضين، وأعداء العروبة الشعوبيين، والمتأثرين بدعايتهم وتلقيناتهم في بعض أنحاء الشام، وخاصةً لبنان كما هو الشأن في مصر، حتى تتجاوز مكابرة بعضهم كل حد ومنطق، فيتجاهلون الأصل العربي القديم الذي تفرع منه سكان بلاد الشام القدماء الكنعانيون الفينيقيون والآراميون السريان، ويتجاهلون السيل العربي الصريح الذي أخذ يتدفق على هذه البلاد، بما فيها لبنان قبل الإسلام وبعده، ويغمر مدنها وقراها، والذي تفوق أعداده سكان لبنان، بل والشام جميعها قبل العروبة الصريحة، ويطبعها بطابع العروبة الشامل منذ ثلاثة عشر قرناً، والذي يتمثل في كل ناحية من أنحاء الشام، بما فيها لبنان، سواء أكان في اللغة أم في كل تقليد من تقاليدها وكل مظهر من مظاهر حياتها تمثلاً قوياً، ويحاولون فصل تاريخها عن تاريخ الجنس العربي، ليوقروا في أذهان سكانها، وخاصة نصاراه، وبنوع أخص موارنته، الذين هم من الجنس العربي يقيناً، سواء أكانوا آراميين أم فينيقيين، أم من قبائل بني مراد العرب الصرحاء، وهن الصلة بينهم وبين العروبة الأصيلة، وليجعلوهم يعتبرون العرب غزاة كسائر الغزاة الذين طرأوا على بلاد الشام، ووطدوا حكمهم عليها بالفتح العسكري فحسب، وكون ما هنالك من فرق، هو أنهم أعطوها دينهم ولغتهم، كما كان وما يزال يبث همساً وصراحةً تارةً أخرى، وفي حين تكفي في نظرهم المئتان والثلاثمائة من السنين لتجعل سكان بلاد ما متنوعي الأصل والجنس أمة ذات قومية واحدة، لأنها صارت تتكلم بلغة واحدة، وتعيش في جو تاريخي واحد.
وهناك ظاهرة يجدر التنويه بها في هذا المقام، وهي أنه لم يذكر أحد من الباحثين أنه كان غرابة لسانية بين سكان مختلف أنحاء الشام، شمالها وجنوبها وشرقها وساحلها، أو أنه كان بينهم وسطاء ومترجمون، حيث يفيد هذا أنهم كانوا يتكلمون لغةً واحدة، وإن اختلفت لهجاتها. ولما كانت هذه اللغة أو اللهجات متقاربة أو متماثلة مع اللغة العربية، فقد عدت شقيقات لها.
فكل ما تقدم يدل أحسن الدلالة على صلة معظم سكان بلاد الشام، وخاصةً معظم الطارئين عليها منذ أقدم العصور التاريخية المعروفة، إلى منتصف الألفية الثانية قبل المسيح الذي أخذت العروبة فيه تتطور من عروبة غير صريحة إلى عروبة صريحة، يمتون إلى الجزيرة العربية، وبالتالي إلى الجنس العربي، ويسوغ بصورة لا تصح المماراة فيها سلك تاريخهم في سلك تاريخ الجنس العربي. وهذا بالإضافة إلى أننا حينما نقرر صلة سكان بلاد الشام القدماء بالجنس العربي، أو بكلمة أدق، حينما نبرز هذه الصلة، نكون قد أبرزنا سعة نطاق الجنس العربي وحيويته في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والحضارية والسياسية والعسكرية، حينما برز هذا الجنس على مسرح هذه البلاد، التي كانت مصدراً رئيسياً من مصادر الحضارة البشرية التي شعت على العالم وكانت من مشاعل هداية البشر وحضارتهم الأولى من جهة، ونكون من جهة أخرى قد وصلنا بين حيوية العروبة في دورها الصريح على مسرح هذه البلاد، وبين حيويتها عليه قبل هذا الدور، فصار من سلسلة متصلة الحلقات يمسك بعضها بعضاً من جهة أخرى.
وليس هناك ما يمكن أن يساعد على تعيين مبدأ تاريخي لانسياح الموجات العربية إلى بلاد الشام، ولقد كان فيها قبل انسياح الموجة الكنعانية، التي تسجل كأول موجة معروفة ومعينة الاسم، ومتصلة التاريخ والأحداث، والتي يخمن تاريخ انسياحها في أوائل الألف الثالثة قبل المسيح، سكان يرجح المؤرخون والأثريون أنهم، أو أن منهم موجات جاءت من جزيرة العرب. وهذا الترجيح في محله، لأن انسياح الموجات من جزيرة العرب إلى وادي النيل والعراق قد بدأ قبل الألف الثالثة قبل الميلاد بأمدٍ طويل. ومن المعقول أن تكون بلاد الشام من المناطق التي انساحت إليها موجات من جزيرة العرب مثلها.
ولقد جاء في كتاب الإسلام والمسيحية في لبنان، معزواً إلى المؤرخ الإنكليزي فيليب فان، والأمير موريس شهاب مدير الآثار اللبنانية، أن علماء الآثار اكتشفوا أن هجرات كثيرة متتابعة جاءت من جزيرة العرب إلى مصر والعراق وسورية ولبنان قبل أزمنة التاريخ، وأن من أقدم هذه الهجرات المكتشفة، بالنسبة إلى لبنان، هجرة فوج كنعاني أول قبل مجيء الفوج المعروف يقيناً. ومن الأدلة التي ساقها على ذلك كون تأسيس مدينة بيروت – وهو أسم عربي اللمحة ويرجح أن يكون أصله بئروت – كان في الألف الرابع قبل المسيح، أي قبل قدوم الموجة الكنعانية التي نحن في صددها.
وقد ذكر هذا المطران الدبس في كتابه تاريخ سورية، وأضاف إليه مدينة جبيل وهو كذلك أسم عربي اللمحة، ويرجح أن يكون أصله جب إيل أي حصن الإله، أو مقر الإله – وقال أن منشئيهما ومنشئ مملكتيهما كانوا في لبنان قبل حلول الكنعانيين المعروفين، وساق على ذلك أدلة متنوعة. وهو يقرر في ثنايا كلامه أن هؤلاء المتقدمين على الكنعانيين المعروفين هم أيضاً من الجنس السامي أي العربي.
ولقد ذكر فيليب حتي أن خوفو أول ملوك الأسرة الرابعة نقش اسمه على آنية وأرسلها كهدية إلى سيدة جبيل. وحكم الأسرة التي ينتسب إليها خوفو كان ما بين 2900 – 2750 ق. م، وهو أول أو ثاني ملوكها، أي أن حكمه كان في القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد. وهذا الزمن يسبق الزمن المخمن لطروء الموجة الكنعانية المعروفة واستقرارها ونشاطها. والخبر يتسق مع ما ذكره المطران الدبس في صدد جبيل، كما هو المتبادر.
ولقد جاء في كتاب مصر القديمة، استناداً إلى الآثار المصرية، أن سنفرو أحد ملوك الأسرة الرابعة، أو آخر ملوك الأسرة الثالثة، حسب استنباط مؤرخين آخرين (أي حوالي القرن الثلاثين قبل الميلاد)، قد سير حملة بحرية عظيمة إلى الموانئ السورية، رجعت محملة بالأخشاب التي قطعت من غابات لبنان. ولعل هذا أقدم ذكر لموانئ سورية وأخشاب لبنان. والمتبادر أن هذه العملية لم تكن لتتم إلا بمساعدة أهل البلاد وجهودهم، حيث ينطوي في هذا حقيقة وجود سكان في هذه السواحل ذوي نشاط زراعي، قبل الوقت المخمن لمجيء الموجة الكنعانية المعروفة. وليس ما يمنع أن يكون من موجات عربية سابقة، مما أشار إليها مؤلف كتاب الإسلام والمسيحية في لبنان.
ولقد جاء في كتاب تاريخ سورية ولبنان وفلسطين للدكتور فيليب حتي أن الديانة اللغة الكنعانية تبدءان بالظهور من غياهب العصور السامية القديمة، حوالي مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. غير أن أسلافهم كانوا غالباً يحتلون الأقسام الساحلية الجنوبية من بلاد الشام، قبل ذلك بألف سنة أو أكثر. ويمكن استنتاج ذلك من أسماء الأماكن، على ما أظهره علم الآثار الحديث. وقد تأسست المدن مثل أريحا وبيت شاب ومجدو التي أسماؤها كنعانية قبل عام 3000 ق. م.، وظهر في الكتابات الأثرية في النصف الأول للألف الثاني مدن أخرى لها أسماء سامية معروفة، يمكن اعتبارها كنعانية، مثل عكو وصور وصيدون وجبلة (جبيل) وأركة وسيميرا.
ولقد جاء في كتاب تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار أن سكان بلاد الشام ولبنان كانوا قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة قبائل سامية من البابليين، ثم طرأ عليهم الكنعانيون، وأن اللغة البابلية ظلت اللغة السائدة لأن الكنعانيين ليسوا إلا فرعاً من البابليين، ومما استدل به على ذلك رسائل تل العمارنة التي كانت ترسل من أمراء وحكام سورية باللغة البابلية والخط المسماري، والتي ترجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد المسيحي.
ولقد ذكرت أسفار العهد القديم أسماء أمم وقبائل عديدة كانت تسكن فلسطين وشرق الأردن إلى جانب الكنعانيين والآموريين، كالعماليق والحوريين والأيميين والرفائيين والحوييين والفرزيين والجرجاشيين واليبوسيين، حيث يدل اختصاصهم بالذكر مستقلاً عن ذكر الكنعانيين والأموريين على أنهم من غيرهم. ومن المحتمل كثيراً أن يكونوا فروع موجات أخرى، جاءت قبلهم من جزيرة العرب. وقد قال مؤلف كتاب الإسلام والمسيحية في لبنان عن الجرجاشيين أنهم فخذ من الفوج الكنعاني الأول.
ولقد كان قدوم موجة معروفة يقيناً إلى بلاد الشام الداخلية والشمالية، وهي الموجة الآمورية أو العمورية، بعد قليل من قدوم الموجة الكنعانية. وقد اكتشفت في هذه الأقسام الشامية آثار لسكان أقدم من العموريين، يخمن كذلك أنهم، أو أن منهم موجات عربية الجنس وهو تخمين في محله، لأنه متسق مع ظروف انسياح موجات جزيرة العرب قبل الألف الثالثة السابقة للميلاد المسيحي إلى بلاد العراق ووادي النيل وأنحاء الشام الساحلية والجنوبية، على ما ذكرناه سابقاً.
ومما يؤكد هذه الترجيحات والتخمينات أن موجات جزيرة العرب ظلت تنساح متلاحقة إلى بلاد الشام بعد موجتي الكنعانيين والعموريين، وقبل دور العروبة وبعده، بحيث يصح القول بشيء من الجزم أنه لا يعقل أن تكون الموجتان المذكورتان هما أولى موجات الجزيرة إلى بلاد الشام، ولاسيما أنها متاخمة للجزيرة مباشرة، وأن الانسياح من الجزيرة إلى الأقطار المجاورة لها قد بدأ من زمنٍ أقدم بكثير من الزمن المخمَّن لانسياح الموجتين، على ما شرحناه في الجزء السابق.